فصل: ذكر مقايضة عز الدين أخاه عماد الدين بالبلاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر كسرة الرملة:

وكان مقدم الإفرنج البرنس أرناط، وكان قد بيع بحلب، فإنّه كان أسيراً بها زمن نور الدين، وجرى خلل في ذلك اليوم على المسلمين. ولقد حكى السلطان صورة الكسرة في ذلك اليوم، وذلك أن المسلمين كانوا قد تعبّوا تعبية القتال، ولما قرب العدوّ رأى بعض الجماعة أن تعبر الميمنة إلى جهة الميسرة، والميسرة إلى جهة الميمنة ليكونوا حالة اللقاء وراء ظهورهم تل معروف بأرض الرملة، فبينما اشتغلوا بهذه التعبية هجم الإفرنج وقدّر الله كسرتهم فانكسروا كسرة عظيمة، ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية، وضلّوا في الطريق وتبدّدوا، وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى وكان موهنا عظيما جبره الله بوقعة حطين المشهورة ولله الحمد.
وأما الملك الصالح فإنّه تخبّط أمره وقبض على كمشتكين صاحب دولته وطلب منه تسليم حارم إليه فلم يفعل فقتله. ولمّا سمع الإفرنج بقتله نزلوا على حارم طمعاً فيها، وذلك في جمادى الأخرى سنة ثلاث وسبعين، وقابل عسكر الملك الصالح العساكر الإفرنجية. ولما رأى أهل القلعة خطرها من جانب الإفرنج سلّموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان من السنة المذكورة.
ولما علم الإفرنج ذلك رحلوا عن حارم طالبين بلادهم، ثم عاد الملك الصالح إلى حلب، ولم يزل أصحابه على اختلاف يميل بعضهم إلى جانب السلطان حتى بلغه عصيان عز الدين قليج بتل خالد، فأخرج إليه العسكر، وذلك في عاشر المحرّم سنة ست وسبعين، ثم بلغه وفاة ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل، وكانت وفاته في ثالث صفر من هذه السنة، وولّى مكانه أخوه عز الدين مسعود في الخامس منه، وكانت وفاة شمس الدولة بالإسكندرية.

.ذكر عود السلطان إلى الشام:

ولما عاد السلطان بعد الكسرة إلى الديار المصرية، وأقام بها ريثما لمّ الناس شعثهم، وعلم بتخبّط الشام، عزم على العود إليه، وكان عوده للغزاة، فوصله رسول قليج أرسلان يلتمس من السلطان الموافقة ويستغيث إليه من الأرمن، فاستقل نحو ابن لاون لنصرة قليج أرسلان ونزل يقرّه حصار وأخذ عسكر حلب في خدمته لأنه قد اشترط في الصلح فاجتمعوا على النهر الأزرق بين بهنسة وحصن منصور، وعبر منه إلى النهر الأسود وطرف بلاد ابن لاون وأخذ منهم حصناً وأخربه، وبذلوا له أسارى، والتمسوا منه الصلح، وعاد عنه، ثم راسله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم، واستقر الصلح وحلف السلطان في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين، ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وديار بكر، وكان ذلك على نهر سبخة سنخة وهو نهر يرمي إلى الفرات، وسار السلطان نحو دمشق.

.ذكر وفاة الملك الصالح ووصول عز الدين إلى حلب:

وفي سنة سبع وسبعين مرض الملك الصالح بالقولنج، وكان أول مرضه في تاسع رجب، وثالث عشر منه غلق باب القلعة لشدّة مرضه، واستدعى الأمراء واحداً واحداً وحلفوا لعز الدين صاحب الموصل، وفي الخامس والعشرين منه توفّي رحمه الله، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس. ولما توفّي سارعوا إلى إعلام عز الدين مسعود بن قطب الدين بذلك وإعلامه بما جرى له من الوصية إليه وتحليف الناس له، فسارع سائراً إلى حلب مبادراً خوفاً من السلطان، وكان أوّل قادم من أمرائه إلى حلب مظفّر الدين بن زين الدين وصاحب سروج ووصل معهما من حلف جميع الأمراء له، وكان وصولهم في ثالث شعبان من السنة المذكورة، وفي العشرين منه وصل عز الدين إلى حلب وصعد القلعة واستولى على خزائنها وذخائرها، وتزوّج أمّ الملك الصالح خامس شوّال من السنة المذكورة.

.ذكر مقايضة عز الدين أخاه عماد الدين بالبلاد:

ثم أقام عز الدين بقلعة حلب إلى سادس عشر شوّال، وعلم أنه لا يمكنه حفظ الشام مع الموصل لحاجته إلى ملازمة الشام لأجل السلطان، وألحّ عليه الأمراء في طلب الزيادات، ورأوا أنفسهم أنهم قد اختاروه، وضاق عطنه، وكان صاحب أمره مجاهد الدين قايماز وكان ضيق العطن لم يعتد بمقاساة أمراء الشام، فرحل من قلعة حلب طالباً للرقّة، وخلف ولده ومظفّر الدين بها، وسار حتى أتى الرقّة، ولقيه أخوه عماد الدين عن قرار بيتهم، واستقر مقايضة حلب بسنجار، وحلف عز الدين لأخيه على ذلك في الحادي والعشرين من شوّال، وسار من جانب عماد الدين من تسلم حلب ومن جانب عز الدين من تسلم سنجار، وفي ثالث عشر محرّم سنة ثمان وسبعين صعد عماد الدين إلى قلعة حلب.

.ذكر عود السلطان من مصر:

وأما السلطان فإنه لما وقع الصلح على قليج أرسلان صعد إلى الديار المصرية واستخلف ابن أخيه عز الدين فخروشاه واليا، ولما بلغه وفاة الملك الصالح عزم على العود إلى الشام خوفاً على البلاد من الإفرنج، وبلغه أيضاً وفاة فخروشاه فاشتد عزمه. وكان وصوله إلى دمشق في سابع عشر صفر سنة ثمان وسبعين، ثم أنشأ التأهب لغزاة بيروت، فإنه عبر على الإفرنج في عوده من مصر مكابرة من غير صلح، فقصد بيروت ونزلها ولم ينل منها غرضاً، واجتمع الإفرنج فرحّلوه عنها ودخل إلى دمشق، وبلغه أنّ رسل الموصل وصلوا إلى الإفرنج يحثّونهم على قتال المسلمين، فعلم أنهم نكثوا اليمين، وأنشأ العزم على قصدهم لجمع كلمة العساكر الإسلامية على عدوّ الله، فأخذ في التأهب لذلك، فلما بلغ ذلك عماد الدين سير إلى الموصل يشعره بالخبر ويستحث العساكر، وسار السلطان حتى نزل على حلب في ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وأقام ثلاثة أيّام، ورحل في الحادي والعشرين يطلب الغزاة، واستقر الحال بينه وبين مظفّر الدين وكان صاحب حرّان، وكان قد استوحش من جانب الموصل، وخاف من مجاهد الدين فالتجأ إلى السلطان، وعبر إلى قاطع الفرات وقوّى عزمه على البلاد وسهّل أمرها عنده، ودخل الرّها والرقّة ونصيبين وسروج، ثم شحن على الخابور وأقطعه.

.ذكر نزوله على الموصل:

وكان نزوله عليه في هذه الوقعة في يوم الخميس حادي عشر شهر رجب، وكنت إذ ذاك في الموصل، فسيّرت رسولاً إلى بغداد قبيلا بأيام قلائل، فسرت مسرعاً في الدجلة، وأتيت بغداد في يومين وساعتين من اليوم الثالث مستنجداً بهم فلم يحصل منهم سوى الإنفاذ إلى شيخ الشيوخ وكان في صحبته رسول من جانبهم يأمرونه بالحديث معه ويتلطف الحال معه ويسير إلى بهلوان رسولاً من الموصل يستنجدونه، فلم يحصل من جانبه سوى شرط كان الدخول تحته أخطر من حرب السلطان، ثم أقام السلطان على الموصل أيّاماً، وعلم أنه بلد عظيم لا يتحصل منه شيء بالمحاصرة على هذا الوجه، ورأى أن طريق أخذه أخذ قلاعه وما حوله من البلاد، وإضعافه بطول الزمان، فرحل عنها ونزل على سنجار في سادس عشر شعبان، وأقام يحاصرها، وكان فيها شرف الدين بن قطب الدين وجماعة، ويشتد عليه الأمر حتى كان ثاني شهر رمضان فأخذها عنوة، وخرج شرف الدين وجماعته محترمين محفوظين إلى الموصل وأعطاها ابن أخيه تقي الدين ورحل عنها إلى نصيبين.

.ذكر قصة شاه أرمن صاحب خلاط:

وذلك أنّ أصحاب الموصل أنفذوا إليه واستنجدوا به وطرحوا أنفسهم عليه، فخرج من خلاط لنصرتهم، ونزل بحرزم، وسيّر إلى عز الدين صاحب الموصل أعلمه، فخرج إليه، وذلك في الخامس عشر من شوّال، فسار حتى اجتمع به صاحب ماردين، ووصل جماعة من عسكر حلب، كل ذلك للقاء السلطان، وأرسل شاه أرمن بكتمر إلى السلطان يخاطبه في الصلح بتوسط شيخ الشيوخ، فلم ينتظم بينهم حال، ورحل السلطان إلى عسكر شاه أرمن، فلما سمع شاه أرمن بوصول السلطان ولّى راجعاً إلى بلاده، وعاد عز الدين إلى بلاده، وتفرّقوا، وسار السلطان يطلب بلد آمد، فنزل عليها وقاتلها وأخذها في ثمانية أيّام، وذلك في أوّل محرّم سنة تسع وسبعين، وأعطاها نور الدين بن قره أرسلان. ومنّ على ابن نيسان بجميع ما كان فيها من الأموال وغيرها، ثم سار يطلب الشام لقصد حلب. وفي هذه المدّة خرج عماد الدين وخرب قلعة إعزاز وخرب حصن كفر لاثا وأخذها من بكمش، فإنّه كان قد صار مع السلطان في الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة، وقاتل باشر وكان صاحبها ولد رم الباروقي قد صار مع السلطان، فلم يقدر عليها، وجرت غارات من الإفرنج في البلاد بحكم اختلاف العساكر ودفعهم الله تعالى وتسلم الكرزين ثم عاد إلى حلب.

.ذكر عود السلطان إلى الشام:

ولمّا عاد إلى الشام بدأ بتل خالد، فنزل عليها وقاتلها، وأخذها في الثاني والعشرين من محرّم سنة تسع وسبعين، ثم سار طالباً حلب، فنزل عليها في السادس والعشرين. وكان أوّل نزوله بالميدان الأخضر، واستدعى العساكر من الجوانب واجتمع خلق عظيم، وقاتلها قتالاً شديداً، وتحقق عماد الدين أنه ليس له قبل، وكان قد ضرس من اقتراح الأمراء وجبههم، فأشار إلى حسام الدين طمان أن يسفر له مع السلطان في إعادة بلاده وتسلم حلب إليه، واستقرت القاعدة ولم يشعر أحد من الرعية ولا من العسكر حتى تمّ الأمر واستحكمت القاعدة واستفاض ذلك، واستعلم العسكر منه ذلك، فأعلمهم، وأذن في تدبير أنفسهم وأنفذوا عنهم وعن الرعية عز الدين جرديك النوري وزين الدين، فقعدوا عنده إلى الليل، واستحلفوه على العسكر وعلى أهل البلد وذلك في السابع عشر من صفر، وخرجت العساكر إلى خدمته إلى الميدان الأخضر ومقدمو حلب، وخلع عليهم وطيب قلوبهم، وأقام عماد الدين بالقلعة يقضي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه والسلطان مقيم بالميدان الأخضر إلى الثالث والعشرين من صفر، وفيه توفّي تاج الملوك أخوه من جرح كان أصابه، وشقّ عليه أمر موته، وجلس للعزاء، وفي ذلك اليوم نزل عماد الدين إلى خدمته وعزّاه، وتقرّرت بينهما قواعد، وأنزله السلطان في الخيمة وقدم له تقدمة سنية وخيلا جميلة وخلع على جماعة من أصحابه. وسار عماد الدين من يومه إلى قرار حصار سائراً إلى سنجاب وصعد السلطان قلعة حلب مسروراً منصورا. وعمل له حسام الدين طمان دعوة سنية، وكان قد تخلّف لأخذ ما تخلّف لعماد الدين من قماش وغيره، وكان قد أنفذ إلى حارم من يستلمها، ودافعهم الموالي، وانفذ الأجناد الذين بها يستحلفونه، فخلف لهم وسار من وقته إلى حارم فوصلها في التاسع والعشرين من صفر وتسلّمها وبات بها ليلتين، وقرّر قواعدها، وولّى فيها إبراهيم بن شرده، وعاد إلى حلب ودخلها في ثالث ربيع الأوّل، ثم أعطى العساكر دستوراً وسار كل منهم إلى بلاده، وأقام يقرّر قواعد حلب ويدبر أمورها.

.ذكر غزات عين جالوت:

ولم يقم في حلب إلاّ إلى الثاني والعشرين من ربيع الآخر، وأنشأ عزما إلى الغزاة، فخرج في ذلك اليوم مبرزا نحو دمشق، واستنهض العساكر، فخرجوا يتبعونه، ولم يزل يواصل بين المنازل حتى دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى، فأقام بها متأهباً إلى السابع والعشرين منه، ثم برز في ذلك اليوم ونزل على جسر الخشب وتبعته العساكر مبرزة فأقام به تسعة أيام، ثم رحل في ثامن جمادى الآخرة وسار حتى أتى الفؤاد وتعبّى فيه للحرب، وسار حتى نزل القصير، فبات به، وأصبح على المخاض، وعبر وسار حتى أتى بيسان،فوجد أهلها قد رحلوا عنها وتركوا ما كان من ثقيل الأقمشة والغلال والأمتعة بها، فنهبها العسكر وغنموا وحرقوا ما لم يمكن أخذه، وسار حتى أتى الجالوت، وهي قرية عامرة وعندها عين جارية، فخيّم بها، وكان قد عزم عز الدين جرديك وجماعة من المماليك النورية وجاولي مملوك أسد الدين حتى يكشفوا خبر الإفرنج، فاتفق أنهم صادفوا عسكر الكرك والشوبك سائرين نجدة للإفرنج، فوقع أصحابنا عليهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم زهاء مائة نفر، وعادوا ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد يدعى بهرام الشاووش، فوصل إليه في بقية يوم الكسرة وهو العاشر من جمادى الآخرة، فاستبشر المسلمون بالنصر والظفر. ولما كان السبت حادي عشر وصل الخبر إليه أن الإفرنج قد اجتمعوا في صفورية، فرحلوا إلى الفولة وهي قرية معروفة وكان غرضه المصاف، فلمّا سمع بذلك تعبّى للّقاء ورتّب الأطلاب يمنة ويسرة وقلباً، وسار للقاء العدّة، وسار الإفرنج طالبين المسلمين ووقعت العين في العين، وأخرج السلطان الجاليش خمسمائة رجل معروفة فواقعوا الإفرنج، وجرى قتال عظيم، وقتل من العدة جماعة وهم ينضم بعضهم إلى بعض يحمي راجلهم فارسهم، ولم يخرجوا للمصاف، ولم يزالوا سائرين حتى أتوا العين ونزلوا عليها، ونزل السلطان حولهم والقتل والجرح يعمل فيهم ليخرجوا إلى المصاف وهم لا يخرجون لخوفهم من المسلمين فإنهم في كسرة عظيمة، ولما رأى أنهم لم يخرجوا رأى الانتزاح عنهم لعلهم يرحلون فيضرب معهم مصاف فرجل نحو الطور وذلك في السابع عشر من هذا الشهر فنزل تحت الجبل مترقباً رحيلهم ليأخذ منهم فرصة وأصبح الإفرنج في الثامن عشر راحلين راجعين على أعقابهم ناكصين فرحل رحمه الله نحوهم وجرى من رمي النشاب واستنهاضهم للمصاف أمور عظيمة فلم يخرجوا ولم يزل المسلمون حولهم حتى نزلوا الفولة المقدم ذكرها راجعين إلى بلادهم فلما رأى المسلمون ذلك اجتمعوا على السلطان وأشاروا بالعود لفراغ زادهم وكان قد نال منهم بالقتل والأسر وخربت عفربلا وقلعة بيسان وزرعين وهي من حصونهم المذكورة وخربت عليهم قرى عديدة فعاد منصوراً مظفراً مسروراً حتى نزل الغوار وأعطى الناس دستوراً من أثير المسير ثم سار هو حتى أتى دمشق فدخلها فرحاً مسروراً في يوم الخميس الرابع والعشرين من هذا الشهر. فانظر إلى هذه الهمة التي لم يشغلها عن الغزاة أخذ حلب ولا الظفر بها بل كان غرضه الاستعانة بالبلاد على الجهاد فالله يحسن جزاءه في الآخرة كما وفقه الأعمال المرضية في الدنيا.